السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نواصل معكم بفضل الله المسيرة فى رحلة الموسوعة
العقدية
الكتاب الأول
الباب الثاني
منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد
الفصل الثاني:
قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة
المبحث الرابع:
جمع النصوص في الباب الواحد، وإعمالها بعد تصحيحها
إن معقد السلامة من الانحراف عند بيان قضية عقدية وتفصيل أحكامها هو جمع
ما ورد بشأنها من نصوص الكتاب والسنة على درجة الاستقصاء،مع تحرير دلالات كلٍ، وتصحيح النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم،واعتماد فهم الصحابة والثقات
من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين نصوص الوحيين عند المجتهد -لا في الواقع ونفس الأمر، فينبغي الجمع بين هذه الأدلة برد
ما غمض منها واشتبه إلى ما ظهر منها واتضح، وتقييد مطلقها بمقيدها، وتخصيص عامها بخاصها، فإن كان التعارض في الواقع ونفس الأمر فبنسخ منسوخها بناسخها - وذلك في الأحكام دون الأخبار فلا يدخلها نسخ - وإن لم يكن إلى علم ذلك من سبيل، فيرده إلى عالمه تبارك وتعالى. قال سبحانه:
{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}
[آل عمران:7].
و في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام:
"نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد،ونزل القرآن من سبعة أبواب
على سبعة أحرف،زاجرا وآمرا،وحلالا وحراما،ومحكما ومتشابها،وأمثالا،فأحلوا حلاله،وحرموا حرامه،وافعلوا ما أمرتم به،وانتهوا عما نهيتم عنه،واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه،وآمنوا بمتشابهه،وقولوا آمنا به كل من عند ربنا".
رواه ابن حبان(20/3)(745)،والطبرانى(26/9)،والحاكم(739/1).
من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه،
وقال الحاكم:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه،
وقال الهيثمى فى (مجمع الزوائد 318/7):رواه الطبرانى وفيه عمار بن مطر
وهو ضعيف جداًوقد وثقه بعضهم.
وقال الألبانى فى السلسلة الصحيحة(587):صحيح.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:يؤمن بالمحكم ويدين به،ويؤمن بالمتشابه ولا
يدين به، وهو من عند الله كله.(رواه الطبرى فى تفسيره 179/3).
وقال الربيع بن خثيم رحمه الله:يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد
الله، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه،لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه
صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86] .
(الإعتصام للشاطبى336/2)
وإذا اتضح هذا؛ فإنه لا يجوز أن يؤخذ نص وأن يطرح نظيره في نفس الباب،أو
أن تعمل مجموعة من النصوص وتهمل الأخرى؛ لأن هذا مظنة الضلال في الفهم،
والغلط في التأويل
(إنظر:مفاتيح للفقه فى الدين للشيخ مصطفى العدوى -ص10 فما بعدها) ،
قال الإمام أحمد رحمه الله:الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه،والحديث يفسر
بعضه بعضا.(الجامع لأخلاق الراوى للخطيب البغدادى 212/2)
وقال الشاطبي رحمه الله: ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد،
وهو الجهل بمقاصد الشرع،وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض،فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين،إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة،بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها.. .(الموافقات للشاطبى245/1-246)
ومما يلتحق بهذا المعنى جمع روايات الحديث الواحد والنظر في أسانيده وألفاظه
معاً وقبول ما ثبت، وطرح ما لم يثبت،
وكما قيل:والحديث إذا لم تجمع طرقه لم تتبين علله،ثم النظر في الحديث بطوله
وفي الروايات مجتمعة.
وقد كانت لأهل البدع مواقف خالفوا بها إجماع أهل السنة بسبب مخالفتهم لهذا الأصل العظيم، فكانوا يجترئون من النصوص بطرف،مع إغضاء الطرف عن بقية الأطراف، فصارت كل فرقةٍ منهم من الدين بطرف، وبقي أهل السنة في كل قضية عقدية وسطاً بين طرفين،
فهم -مثلاً- وسط في باب الوعيد بين غلاة المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وبين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد عصاة الموحدين في النار،
كما أنهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين المرجئة القائلين بأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وبين الوعيدية القائلين بتكفيره - كما هو عند الخوارج- أو يجعله بمنزلة بين المنزلتين - كما هو عند المعتزلة -،
وهم وسط في باب القدر بين القدرية النفاة لمشيئته تعالى وخلقه أفعال العباد، وبين الجبرية النفاة لقدرة العبد واختياره ومشيئته ونسبة فعله إليه حقيقة،
والقاعدة الهادية عند اشتباه الأدلة:"أن من رد ما اشتبه إلى الواضح منها،
وحكم محكمها على متشابهها عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس".
(تفسير القرآن العظيم لإبن كثير345/1)بتصرف
واتفق لأهل السنة والجماعة(موافقة طريقة السلف من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه في الدين، كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وإسحاق، وغيرهم، وهي رد المتشابه إلى المحكم، وأنهم يأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضاً، ويصدق بعضها بعضاً، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره) .
(أعلام الموقعين لإبن القيم الجوزية 294/2).
قال تعالى:
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]
وقال تعالى:
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42].
وقد حكى الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقاً، كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك فقال:يقول الباقلاني:وكل خبرين علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه،وإن كان ظاهرهما متعارضين؛لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك،أن يكون موجب أحدهما منافياً لموجب الآخر،وذلك يبطل التكليف إن كان أمراً ونهياً،وإباحة وحظرا،أو يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين،والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك أجمع،ومعصوم منه باتفاق الأمة،وكل مثبت للنبوة .(الكفاية للخطيب البغدادى ص433)
ولما خالف أهل البدع هذه القاعدة كفر بعضهم بعضا، حيث آمن بعضهم بنصوص وكفروا بأخرى، فقد آمن- مثلاً-الوعيدية:من الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد
ومن ذلك قوله تعالى:
{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]
،وقوله تعالى:
{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ ،
عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:14]
،وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة قتات"يعنى:نمام.
رواه البخارى(6056)،ومسلم(105).من حديث حذيفة ابن اليمان رضى الله عنه.وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة قاطع"رواه البخارى(5984)،ومسلم(2556).من حديث جبير بن مطعم رضى الله عنه
وكفروا بنصوص الوعد،وقابلهم المرجئة فآمنوا بنصوص الوعد
(ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة"رواه مسلم(26).
من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه.وقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما من عبد يشهد ان لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار"رواه مسلم(32).من حديث معاذ بن جبل رضى الله عنه.
وكفروا بنصوص الوعيد،
وأهل السنة والجماعة آمنوا بكل وجمعوا بين النصوص،
واعتمدوا على قول الله تعالى:
{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
[الأعراف:156].
وقال تعالى:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}
[النساء:48].
وكذا الجبرية آمنوا بما كفر به القدرية،وكفروا بما آمن به القدرية،
والحق الإيمان بجميع النصوص،واعتقاد نفي التعارض بينها، قال تعالى:
{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
[التكوير:28-29]
فأثبت مشيئة للإنسان مقيدة بمشيئة الرحمن.
فالتفّت – بحمد الله – النصوص واجتمعت،وزالت الشبه وارتفعت الحجب وانقلعت.
(وقد استعمل هذه القاعدة كثير من أئمة العلم والدين في كسر المبتدعة وتفنيد شبهاتهم، كصنيع الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة،وفي كتاب مختلف الحديث،وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية،والإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتاب مختلف الحديث،والطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار،وغير هؤلاء كثير من أئمة السنة)
(منهج الإستدلال على مسائل الإعتقاد لعثمان على حسن 348/1)
المصدر:
علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسرى -[center]